تخيلوا وسط مدينتكم بعد 15 عامًا
من حرب أهلية وحشية
ساحاتها مهجورة، أسواقها مدمرة، ومبانيها التراثية الجميلة
قد شوهتها ثقوب الرصاص والقنابل
ثم تخيلوا أن ما تبقى من المباني
تم هدمها بالجرافات وتدميرها بالديناميت
لماذا؟
لإعادة الإعمار
هذا بالضبط ما حدث لمدينتي بيروت
دمر وسطها مرتين
المرة الأولى خلال الحرب، والمرة الثانية لإعادة الإعمار
أراد الناس قلب الصفحة بسرعة
ولكنهم نسوا أن تاريخنا وهويتنا لا يقدران بثمن
وأن محو تراثنا المعماري ونسيجنا المديني
هو محو لذاكرتنا الجماعية
في أحد أيام العام 1994 كنت يومها مهندسة نشيطة
تذكرت وسط بيروت
لم يكن لدي أي ذكريات عن وسط بيروت
كنت أحس أنني أعرف ذلك المكان جيدًا من المدينة من خلال ما رواه لي والداي
الأسواق، المقاهي، المطاعم الترامواي، دور السينما
ساحة النجمة وساحة البرج
ساحة البرج كانت هي قلب بيروت النابض
تحولت ساحة البرج إلى ساحة معارك خلال الحرب
لقد تم تقسيم بيروت إلى منطقتين شرقية وغربية
يفصل بينهما خط التماس الذي بات يعرف بالخط الأخضر
أخضر حرفيًا، لأن الأشجار احتلت الطرقات
عبر هذا الخط لمدة 15 عامًا تقاتل الناس فقَتلوا وقُتلوا
في أحد أيام العام 1994
كنت يومها مهندسة معمارية حديثة التخرج
مغرمة بالأبنية التراثية ومتحمسة للانخراط في إعادة إعمار مدينتي
يومها صدمني الفراغ الهائل الذي خلفته الجرافات في ساحة البرج
لم يكن هناك ساحة البرج
استدرت ومشيت على طول الخط الأخضر
كانت رائحة الحرب لا تزال هناك
يومها كانت المرة الأولى التي أرى فيها مبنى بركات
مبنى بركات المتربع على تقاطع السوديكو أحد أهم معابر الحرب
لقد تضرر هذا المبنى لوجوده على خط التماس
ولكنه حافظ على وجود آسر
بحجره الأصفر الذي يعكس شمسنا المتوسطية
وتلك الأعمدة الأنيقة التي تلف الزاوية
وذلك الفراغ الجميل الذي يمكننا من خلاله رؤية زرقة السماء
ببساطة أغرمت بذلك المبنى
أحسست أن وجوده وبقاءه هو رمز لعودة المدينة لأهلها
عودة المدينة وأهلها
لقد بني هذا المبنى عام 1924
من قبل معماريين من الرواد اللبنانيين يوسف بك أفتيموس وفؤاد قزح
جوهرة معمارية وتحفة في التواصل البصري
لأنه يمكننا من أية غرفة في المبنى
حتى لو كانت في الجزء الخلفي من رؤية الشارع من خلال الفراغ
شفافية معمارية فريدة تستحق أن نحافظ عليها ونحتفي بها
هذا المبنى عاش فيه الناس أيام بيروت الذهبية السعيدة
قبل أن يهجروه خلال الحرب
ولكن يبدو أن الدكتور نجيب شمالي
الدكتور الذي سكن في الطابق الأول غادر على عجل
كانت حياته لا تزال هناك تحت الأغراض تحت الركام والغبار
عندما دخلت إلى شقته
غرقت رجلاي في طبقة من الملابس والأغراض والأوراق
كان يشبه موقعا أثريًا
وقدر لي أن أنقب فيه لسنوات لأعيد بناء حياة صاحبه
الذي لم أعرفه يومًا
صحف، مجلات، رسائل حب
صور، والبروشورات لسينما وسط بيروت
وسط بيروت الذي هدم
ريفولي، ريالتو، روكسي، رويال، ماجستيك أمبير
كلها كانت سينميات حول ساحة البرج وكلها أصبحت غبارًا
أرشيف لا يقدر بثمن للحياة في بيروت قبل الحرب
أما في فوتو ماريو
وهو استديو للتصوير الفوتوغرافي
كان على الطبقة الأرضية من المبنى
ففيه عثرت على آلاف النيجاتفات
صور رجال ونساء وأولاد وعائلات
كانت قد أخذت صورها قبل الحرب تؤرخ لتقنيات التصوير وأسلوب الحياة آنذاك
قررت تنظيف بعض الصور
وتظهيرها وعرضها في نفس مكان الاستديو
رغبة مني في التعرف على بعض هؤلاء الناس
بعض هؤلاء الوجوه
لقد جمعت الكثير من القصص الجميلة والمعبرة عن هؤلاء الناس
تخيلوا شعوري عندما تقدمت مني سيدتان
في أربعينيات العمر
تدلاني على طفلتين تحملان الشموع
وتقولان هذه نحن هذه نحن
في أحد الشعانين عام 1974
عام 1975 ابتدأت الحرب
وتحول المبنى بسبب موقعه الاستراتيجي إلى آلة قتل
هذا المبنى تحول إلى آلة قتل
وصادف على الخط الذي قسم بيروت إلى نصفين
ولا تزال شجرة الفيكوس الضخمة
تذكرنا بالحرب وبخطها الأخضر
لقد جعلت الهندسة المعمارية العبقرية للمبنى
جعلته آلة قتل أفضل
لقد حُولت نفس المحاور البصرية
الذي صممها المهندس بحب
ليجمع المبنى بالمدينة
استخدمت بشراسة لقطع أوصال المدينة
وقد قامت الميليشيات المقاتلة ببناء هندسة حربية لتحميها داخل المبنى
جدران سميكة من الإسمنت المسلح
وأكياس الرمل وصناديق الرماية الخشبية
مثبتة بدقة لتتحكم بتقاطع السوديكو بأكمله
هذا التقاطع الذي سمي خلال الحرب بتقاطع الموت
هو ماض أليم ولكن يجب أن نتذكره كي لا نعيده
عندما وقفت خلف موقع القناص
ونظرت من خلال فتحة إطلاق النار
تذكرت عندما كنت أيام الحرب طفلة
أركض مع والدتي لنختبئ تحت مائدة الطعام
لأننا نظن أن سطحها الخشبي السميك سوف يحمينا
وبينما تتساقط القنابل حولنا
كانت أمي تهدئ من روعي وتقول
لا تخافي إذا سمعنا القنبلة فهي لن تقتلنا
لأنها مرت فوقنا
وأنا أتساءل ببراءة الطفلة
ترى من ستقتل إذن جارتنا أم يحيى أم جارنا أبو محمد؟
وهل ستقتلنا قنبلة لن نسمع صوتها؟
ذكريات الحرب الأليمة يجب أن تحكى ويجب أن تشارك
في أحد أيام العام 1997
بدأ تفكيك مبنى بركات
لتحويله إلى قطعة أرض وبيعه إلى مطور عقاري لبناء برج ما
أصبت بالجنون
قررت التحدي وبداية حملة للدفاع عن المبنى وللحفاظ عليه
اتصلت بالصحافة وكالات الأنباء المحلية والأجنبية
استضافوني على البرامج التلفزيونية
قمت بجولات توعوية في المدارس والجامعات
مع السفارات، مع الجمعيات
أقمت معارض، وقعت التماسات، كتبت مقالات لمدة سنوات
كان التحدي كبيرًا
لأنه لا يوجد قانون لحماية الأبنية التراثية في بيروت
والتحدي الأكبر كان أن بقاء هذا المبنى بالذات
يعني البقاء على ذاكرة الحرب
ولم يكن أحد يريد أن يتذكر الحرب بالأخص المشاركين فيها وهم كثر
لكنني رغم أن المعركة كانت شبه مستحيلة
لكنني كنت أؤمن بالمعجزات
كنت أؤمن أنه إذا كان هناك مبنى واحد في بيروت
يجب الحفاظ عليه
فهو مبنى بركات
وبعد 6 سنوات
وتحت ضغط الصحافة المحلية والأجنبية
والمجتمع المدني وجنوني
وافقت البلدية على استملاك المبنى ليصبح
وافقت بلدية بيروت على استملاك المبنى ليصبح بيت بيروت
متحف ذاكرة المدينة
واستغرق الأمر 13 عامًا آخرين
لتحقيق الاستملاك ووضع التصاميم
واستكمال الترميم المعماري
مع الإبقاء على كل ذاكرة الحرب بكل تفاصيلها
هذا المبنى يختزل بالنسبة لي بيروت
بيروت قبل الحرب، بيروت خلال الحرب، وخاصة بيروت بعد الحرب
الصراع للإبقاء على تراثنا المعماري
في وجه جشع التطوير العقاري
والحفاظ على ذاكرتنا الجماعية
في مدينة يكتسحها فقدان الذاكرة
اليوم يستقبل بيت بيروت معرض ألو بيروت
أول معرض تفاعلي انغماسي
يرى بيروت بعيون الفنانين الشباب
ويرى بيروت في الستينات
في محاولة لفتح النقاش حول هوية المدينة وذاكرتها وحاضرها
ومحاولة فهم الماضي للنظر نحو مستقبل أفضل
أردته مكانًا للناس لرواية قصصهم
لمشاركة ذكرياتهم
وأحلامهم بالمستقبل
أردته مكانًا للجميع، وليس فقط لمدينة بيروت وحدها
لأنه يروي قصصًا إنسانية عن الحياة والحب
والخوف والحرب والبقاء والمقاومة والأحلام المستحيلة
وإمكانية تحقيقها
ابحثوا في وطننا العربي عن مباني بركات
التي تحمل ذاكرتنا الجماعية وهويتنا الثقافية وتاريخنا الإنساني المشترك
تمسكوا بها حافظوا عليها
لأنها هي التي ستحمي أجيالنا وتبقي على تاريخنا
AITransDub
AI varomas vaizdo įrašų vertimas ir dubliavimas
Akimirksniu sulaužykite kalbos kliūtis! AI varomas tikslus vertimas ir greitas jūsų vaizdo įrašų dubliavimas.